طويل القامةِ ...ممتشق القوام ...شعره أشقر تخالطه حمرة واضحة ...أعسر اليد ..عندما يحرك ذراعه الأيسر تشعر بأنه يحرك الكون في ثناياها ...مشيته بها ثقة وثبات ، وعندما يخطو خطوته تشعر بيديه وكتفيه يتناغمان مع القدم بأروع الحركات .
منذُ نعومة أظفاره ...من أيام دراسته الابتدائية ..كان متميزاً ...محبوباً ..بعيداً عن حب التملك والأنانية
يتسابق زملائه للجلوس من حوله ... يسردون له قصصهم وأخبارهم الطريفة ..يبادلونه الفكاهة والأحاديث
كلامه سابقٌ لأبناءِ جيله ..إبتسامته هادئة ..عيونه عسلية صافية .
كان لاعباً رشيقاً ..وعداءً سريعا ...عندما يجتمع مع زملائه في ارض الملعب ليقسموا أنفسهم إلى فريقين ..كان كل واحدٍ منهم يحب ان يكون في فريقه ..فمن كان محظوظاً وكان في فريقه يكون واثقاً قبل ان تبدأ المباراة بحتمية الفوز ...كانت كلمة واحدة منه كافية لتحسم الخلاف بين أي ٍّ من زملائه المتخاصمين ..ومجرد تواجده بينهم كفيلاً بخلق أجواء من المحبة والاحترام... نادراً ما كان طرفاً في شِجار ..هذه الطلةُ البهية ..وهذه الرشاقةُ والأناقةُ والابتسامةُ الزكية كانت عاصمة له من عبث العابثين وسطوة المتجبرين
أنهى دراسته الثانوية بمعدل ٍ جيد ٍ جداً , مكنه من الانتقال إلى الجامعة ليواصل مسيرته التعليمية في ظل أجواءٍ جديدة وزملاءٍ جُدد , وسرعان ما تجاذبته الأيادي مرحبة , معجبةً بدماثة أخلاقه ورقة حديثه وسرعة بديهته
كان أحمد شغل أمه الشاغل ومحور حديثها ...كان مستقبلها ودنياها ...لا تَكُفَ عن الحديث عنه مع جاراتها والمحيطين فيها (.... الله يرضى عليك يَمّا يا أحمد ..والله يا إم العبد عمرو ما زعلني بكلمة ...الله يرضى عليه والله ما بنخاه_( عامية من النخوة )_ على حاجة إلا مثل البرق يروح يجيبها .... الله يرضى عليه عمري ما تغلبت من وراه ..مكتبته يا ام العبد برتبها ..ملابسه بعلقها محلها ..ودايماً برتب فراشه لما يقوم الصبح ...مش مثل اخوه محمد يا ام العبد ...ييييييه ...كان مغلبني بأكله وشربه ولبسه , وعامل البيت من خلفه دمار ...ولما كبر وشب يا ام العبد زم حاله وطفش على بلاد برّه ...ما بيسأل عنا ولا بنعرف عن علومه شيّ ... بس أحمد يا حبة عيني ...الله يرضى عليه بينحط على الجرح بيطيب ..شاطر ومرتب ومعدل ومحبوب وين ما راح...)
تعودت أم محمد أن تصحو باكراً لتوقظ إبنها وفلذة كبدها الساعة السادسة صباحاً حيث تكون بانتظاره سيارة الأُجرة الساعة السادسة والنصف ليركبها مع زملائه متوجها إلى جامعته في مدينة نابلس ...ومع أنّ مشوار الطريق ما بين قريته الصغيرة ومدينة نابلس لا يأخذ أكثر من نصف ساعة إلا ان الحواجز كانت تعيقه فيصل جامعته الساعة الثامنة إن تيسر الأمر ..أو الثامنة والنصف إن تعسر .
قامت أُمُ محمدٍ باكراً كعادتها , وتوجهت إلى سرير ابنها , وضعت يدها على كتفه بحنان ..:ـ قوم يما الله يرضى عليك صارت الساعة سته .....فتح أحمد عيونه العسلية ورفع ذراعيه للأعلى وشد رجليه للأسفل مع ثني الجذع يميناً جهة أمه ..تبسم وقال لها : ( ماشي يَمّا هيني قايم ) .... جهز نفسه على عجل ...داعب أخيه الصغير المتشبث بثوب أمه بالمطبخ ..تناول كسرة َخبزٍ وقطعةَ جُبنٍ مع زيت الزيتون ..ذهب أحضر كتبه ..رجع للمطبخ .. إرتشف نصف كوب الشاي على عجل .. ثم قبل امه مودعا .
مضت الساعات وام احمد على طبيعتها تعمل في تدبير شؤونها المنزلية ..يومها مثل باقي الأيام ..
قاربت الساعة الثالثة عصرا حينما رن هاتف بيتها ..توجهت نحوه رفعت السماعة لتسمع احمد يقول لها :ـ...ألوو يَمّا ..الله يمسيكِ بالخير يا ست الحبايب ...إسمعي يا ماما ..أنا اليوم بدي أنام في نابلس عند صحابي ..بيقولوا الطريق صعبة والحواجز بِتّغَلِّبْ ..وإنتي عارفة يا ماما .. الجنود على الحواجز كل ساعة وهم في رايّ ...
ردت أُم احمد : يعني ما بتقدر تروح يَمّا
لا يما ..اليوم أبات في نابلس... لا تزعلي يما ..بدي تسامحيني وترضي عليّ
طيب يا احمد دير بالك يما ..الله يرضى عليك
مضت ساعات النهار وجاء الليل ..البيت بدونه كئيبا ..لا أحد يبادلها اطراف الحديث
توجهت للنوم باكراً ..تململت في فراشها ..وغادر عيونها النعاس ..تعللت في مداعبة الصغير ...اغرورقت عيناها بالدموع ...زارتها خيالات وافكارٌ مزعجة في صحوها وشرودها ...عدلت من جلستها... مسحت دمعتها واستغفرت ربها ..وعادت أدراجها للفراش .
في اليوم التالي قامت باكراً توجهت الى غرفة أحمد وقبل ان تصل الباب تذكرت انه في المدينة ...إنثـنت ترتب أُمور منزلها ومضت الساعات .... أخذها العمل حتى الرابعة ساءاً... تذكرت وقت عودته حضرت الطعام ....إنتظرته والهواجس تلاحقها , فتعللُ نفسَها بمداعبة الصغير لتطردها ..مضت الساعات ..تأخر احمد كثيراً ..تريد أن تكلمه ..لكنه لا يحمل جولاً ..خرجت للحديقة.... تضايقت.. عادت ..دخلت المنزل... شغلت التلفاز ..اطفأته وقامت
سارت في الصالون جيئةً وذهاباً تعصرُ أنامل يدها بكف يدها الأخرى ..ضاق بها المنزل ..خرجت الى ساحة البيت .... عادت ودخلت بيتها ..وضعت الصغير في حضنها , وشردتْ بها الهواجس والافكار .
لحظات وما إستفاقت من صمتها وهيامها إلا على ضجيج أهل حارتها وجيرانها يملؤون عليها بيتها
شدي حالك يا ام محمد
الشهيد حبيب الله يا ام محمد
مش كل من تمنى الشهادة نالها يا ام محمد
رويدا ًرويداً صارت ترى شفاه الناس وتسمع ضجيجهم دون أن تعي كلماتهم
رويداً رويداً أصابت الغشاوة عينيها وتلاشت أمامها الاجساد
ترنحت مال رأسها وسقطت مغشيا عليها وفارقتهم تاركة لهم
القيام بواجبهم
في ترتيب الجنازة
والخطابة
والحداد
منذُ نعومة أظفاره ...من أيام دراسته الابتدائية ..كان متميزاً ...محبوباً ..بعيداً عن حب التملك والأنانية
يتسابق زملائه للجلوس من حوله ... يسردون له قصصهم وأخبارهم الطريفة ..يبادلونه الفكاهة والأحاديث
كلامه سابقٌ لأبناءِ جيله ..إبتسامته هادئة ..عيونه عسلية صافية .
كان لاعباً رشيقاً ..وعداءً سريعا ...عندما يجتمع مع زملائه في ارض الملعب ليقسموا أنفسهم إلى فريقين ..كان كل واحدٍ منهم يحب ان يكون في فريقه ..فمن كان محظوظاً وكان في فريقه يكون واثقاً قبل ان تبدأ المباراة بحتمية الفوز ...كانت كلمة واحدة منه كافية لتحسم الخلاف بين أي ٍّ من زملائه المتخاصمين ..ومجرد تواجده بينهم كفيلاً بخلق أجواء من المحبة والاحترام... نادراً ما كان طرفاً في شِجار ..هذه الطلةُ البهية ..وهذه الرشاقةُ والأناقةُ والابتسامةُ الزكية كانت عاصمة له من عبث العابثين وسطوة المتجبرين
أنهى دراسته الثانوية بمعدل ٍ جيد ٍ جداً , مكنه من الانتقال إلى الجامعة ليواصل مسيرته التعليمية في ظل أجواءٍ جديدة وزملاءٍ جُدد , وسرعان ما تجاذبته الأيادي مرحبة , معجبةً بدماثة أخلاقه ورقة حديثه وسرعة بديهته
كان أحمد شغل أمه الشاغل ومحور حديثها ...كان مستقبلها ودنياها ...لا تَكُفَ عن الحديث عنه مع جاراتها والمحيطين فيها (.... الله يرضى عليك يَمّا يا أحمد ..والله يا إم العبد عمرو ما زعلني بكلمة ...الله يرضى عليه والله ما بنخاه_( عامية من النخوة )_ على حاجة إلا مثل البرق يروح يجيبها .... الله يرضى عليه عمري ما تغلبت من وراه ..مكتبته يا ام العبد برتبها ..ملابسه بعلقها محلها ..ودايماً برتب فراشه لما يقوم الصبح ...مش مثل اخوه محمد يا ام العبد ...ييييييه ...كان مغلبني بأكله وشربه ولبسه , وعامل البيت من خلفه دمار ...ولما كبر وشب يا ام العبد زم حاله وطفش على بلاد برّه ...ما بيسأل عنا ولا بنعرف عن علومه شيّ ... بس أحمد يا حبة عيني ...الله يرضى عليه بينحط على الجرح بيطيب ..شاطر ومرتب ومعدل ومحبوب وين ما راح...)
تعودت أم محمد أن تصحو باكراً لتوقظ إبنها وفلذة كبدها الساعة السادسة صباحاً حيث تكون بانتظاره سيارة الأُجرة الساعة السادسة والنصف ليركبها مع زملائه متوجها إلى جامعته في مدينة نابلس ...ومع أنّ مشوار الطريق ما بين قريته الصغيرة ومدينة نابلس لا يأخذ أكثر من نصف ساعة إلا ان الحواجز كانت تعيقه فيصل جامعته الساعة الثامنة إن تيسر الأمر ..أو الثامنة والنصف إن تعسر .
قامت أُمُ محمدٍ باكراً كعادتها , وتوجهت إلى سرير ابنها , وضعت يدها على كتفه بحنان ..:ـ قوم يما الله يرضى عليك صارت الساعة سته .....فتح أحمد عيونه العسلية ورفع ذراعيه للأعلى وشد رجليه للأسفل مع ثني الجذع يميناً جهة أمه ..تبسم وقال لها : ( ماشي يَمّا هيني قايم ) .... جهز نفسه على عجل ...داعب أخيه الصغير المتشبث بثوب أمه بالمطبخ ..تناول كسرة َخبزٍ وقطعةَ جُبنٍ مع زيت الزيتون ..ذهب أحضر كتبه ..رجع للمطبخ .. إرتشف نصف كوب الشاي على عجل .. ثم قبل امه مودعا .
مضت الساعات وام احمد على طبيعتها تعمل في تدبير شؤونها المنزلية ..يومها مثل باقي الأيام ..
قاربت الساعة الثالثة عصرا حينما رن هاتف بيتها ..توجهت نحوه رفعت السماعة لتسمع احمد يقول لها :ـ...ألوو يَمّا ..الله يمسيكِ بالخير يا ست الحبايب ...إسمعي يا ماما ..أنا اليوم بدي أنام في نابلس عند صحابي ..بيقولوا الطريق صعبة والحواجز بِتّغَلِّبْ ..وإنتي عارفة يا ماما .. الجنود على الحواجز كل ساعة وهم في رايّ ...
ردت أُم احمد : يعني ما بتقدر تروح يَمّا
لا يما ..اليوم أبات في نابلس... لا تزعلي يما ..بدي تسامحيني وترضي عليّ
طيب يا احمد دير بالك يما ..الله يرضى عليك
مضت ساعات النهار وجاء الليل ..البيت بدونه كئيبا ..لا أحد يبادلها اطراف الحديث
توجهت للنوم باكراً ..تململت في فراشها ..وغادر عيونها النعاس ..تعللت في مداعبة الصغير ...اغرورقت عيناها بالدموع ...زارتها خيالات وافكارٌ مزعجة في صحوها وشرودها ...عدلت من جلستها... مسحت دمعتها واستغفرت ربها ..وعادت أدراجها للفراش .
في اليوم التالي قامت باكراً توجهت الى غرفة أحمد وقبل ان تصل الباب تذكرت انه في المدينة ...إنثـنت ترتب أُمور منزلها ومضت الساعات .... أخذها العمل حتى الرابعة ساءاً... تذكرت وقت عودته حضرت الطعام ....إنتظرته والهواجس تلاحقها , فتعللُ نفسَها بمداعبة الصغير لتطردها ..مضت الساعات ..تأخر احمد كثيراً ..تريد أن تكلمه ..لكنه لا يحمل جولاً ..خرجت للحديقة.... تضايقت.. عادت ..دخلت المنزل... شغلت التلفاز ..اطفأته وقامت
سارت في الصالون جيئةً وذهاباً تعصرُ أنامل يدها بكف يدها الأخرى ..ضاق بها المنزل ..خرجت الى ساحة البيت .... عادت ودخلت بيتها ..وضعت الصغير في حضنها , وشردتْ بها الهواجس والافكار .
لحظات وما إستفاقت من صمتها وهيامها إلا على ضجيج أهل حارتها وجيرانها يملؤون عليها بيتها
شدي حالك يا ام محمد
الشهيد حبيب الله يا ام محمد
مش كل من تمنى الشهادة نالها يا ام محمد
رويدا ًرويداً صارت ترى شفاه الناس وتسمع ضجيجهم دون أن تعي كلماتهم
رويداً رويداً أصابت الغشاوة عينيها وتلاشت أمامها الاجساد
ترنحت مال رأسها وسقطت مغشيا عليها وفارقتهم تاركة لهم
القيام بواجبهم
في ترتيب الجنازة
والخطابة
والحداد